فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة: ألف لام ميم يليها الحديث عن كتاب الله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}.
ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية. وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة. نختار منها وجها. إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه- مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله.
الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابًا!
والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا. وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس، أن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات. فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة، أو آنية أو اسطوانة، أو هيكل أو جهاز. كائنًا في دقته ما يكون، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة. تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز، سر الحياة، ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر، وهكذا القرآن، حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل منها الله قرآنًا وفرقانًا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة!. اهـ.

.قال الثعلبي:

قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفًا من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه الألف فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفًا، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفًا حرفًا إلى ثمانية وعشرين حرفًا، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّمًا على الحروف كلّها.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: {الم} فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء؛ لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، والألف. ابتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، والألف مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنىً عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باينَ بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الإلفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلاّ بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه. اهـ. بتصرف يسير.

.قال في ملاك التأويل:

قوله سبحانه: {الم}. أقول وأسأل الله توفيقه:
إن القول الوارد عنهم في هذه الحروف المقطعة الواردة في أوائل السور على كثرته وانتشاره منحصر في طرفين أحدهما: القول بأنها مما ينبغى أن لايتكلم فيه ويؤمن بها كما جاءت من غير تأويل.
والثانى: القول بتأويلها على مقتضى اللسان وهذا مسلك الجمهور، وهذا الذي نعتقد أنه الحق لأن العرب تحديت بالقرآن وطلبت بمعارضته أو التسليم والانقياد وبمعرفتهم أنه بلسانهم ومعروف تخاطبهم وعجزهم مع ذلك عنه قامت الحجة عليهم وعلى كافة الخلق، وإذا سلم هذا فكيف يرد في شيء منه خطابهم بما لا طريق لهم إلى فهمه، فلو كان هذا لتعلقوا به ووجدوا السبيل إلى التعلل في العجز عنه وهذا مبسوط في كتب الناس وغير خاف وقد انتشرت تأويلات المفسرين وتكاثرت والملائم بما نحن بسبيله ما أذكره مما لم أر من تعرض له وهو اختصاص كل سورة من المفتتحة بهذه الحروف بما افتتحت به منها فهذا ما يسأل عنه ولم أر من تعرض وهو راجح إلى ما قصدته هنا وما سوى هذا مما يتعلق بالسؤال على الحروف كورودها على حرف وعلى حرفين إلى خمسة وتخصيص هذه الحروف الأربعة عشرة وكثرة الوارد منها على ثلاثة إلى غير هذا فليس من مقصدنا في هذا الكتاب أما الأول فمن شرطنا.
والجواب عنه: أن وجه اختصاص كل سورة منها بما به اختصت من هذه الحروف حتى لم يكن ليرد {الم} في موضع {الر} ولا {حم} في موضع {طس} ولا {ن} في موضع {ق} إلى سائرها، أن هذه الحروف لافتتاح السور بها ووقوعها مطالع لها كأنها أسماء لها بل هي جارية مجرى الأسماء من غير فرق وهذا إذا لم نقل بقول من جعلها أسماء للسور والعرب تراعى في الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في المسمى من خلق أو صفة تخصه أو تكون فيه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام والقصيدة الطويلة من الشعر بما هو أشهر فيها أو بمطلعها إلى أشباه هذا وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لغريب قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة في أمرها وتسمية سورة الأعراف بالأعراف لما لم يرد ذكر الأعراف في غيرها وتسمية سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها وكثر من أحكام النساء وتسمية الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها وإن كان قد ورد لفظ الأنعام في غيرها إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى: {ومن الأنعام حمولة وفرشا} إلى قوله: {أم كنتم شهداء} لم يرد في غير هذه السورة كما ورد ذكر النساء في سور إلا ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد في غير سورة النساء وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة في غيرها فسميت بما يخصها.
فإن قلت: قد ورد في سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ولم تختص باسم هود وحده عليه السلام فما وجه تسميتها بسورة هود على ما أصلت وقصة نوح فيها أطول وأوعب؟
قلت: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هود وسورة الشعراء بأوعب مما وردت في غيرها ولم يتكرر في واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود عليه السلام كتكرره في هذه السورة فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته في أربع مواضع والتكرر من أعمد الأسباب التي ذكرناها.
فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح في هذه السورة في ستة مواضع وذلك أكثر من تكرر اسم هود.
قلت: لما أفردت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها فلم يقع فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه عليه السلام من سورة تضمنت قصته وقصة غيره من الأنبياء عليهم السلام وإن تكرر اسمه فيها أكثر من ذلك.
أما هود عليه السلام فلم يفرد لذكره سورة ولا تكرر اسمه مرتين فما فوقها في سورة غير سورة هود فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه- عليه السلام.
وتسمية سائر سور القرآن جار فيها من رعى التسمية ما يجاريها فأقول- وأسأل الله عصمته وسلامته:
إن هذه السور إنما وضع في أول كل سورة منها ما كثر ترداده فيما تركب من كلمها ويوضح لك ما ذكرت أنك إذا نظّرت سورة منها بما يماثلها في عدد كلمها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها تلك السور إفرادا وتركيبا أكثر عددا في كلمها منها في نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها وحروفها فإن لم تجد سورة منها ما يماثلها في عدد كلمها ففى اطراد ذلك في المتماثلات مما يوجد له النظير ما يشعر بأن هذه لو وجد مماثلها لجرى على ما ذكرت لك وقد اطرد هذا في أكثرها فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الوارد فيها فلو وقع في موضع {ق} من سورة {ق} {ن} من سورة {ن والقلم} وموضع ن ق لم يمكن لعدم المناسبة المتأصل رعيها في كتاب الله تعالى فإذا أخذت كل افتتاح منها معتبرا بما قدمته لك لم تجد: {كهيعص} يصح في موضع {حم عسق} ولا العكس ولا {حم} في موضع {طس} ولا العكس ولا {المر} في موضع {الم} ولا عكس ذلك، ولا {المر} في موضع {المص} بجعل الصاد في موضع الراء ولا العكس فقد بان وجه اختصاص كل سورة بما به افتتحت، وأنه لا يناسب سورة منها ما افتتح غيرها، والله أعلم بما أراد. اهـ.
قال السهيلي:
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابٍ- أَنّ أَبَا يَاسِرٍ بْنَ أَخْطَبَ مَرّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ الْبَقَرَةِ {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ فَقَالَ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت مُحَمّدًا يَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} فَقَالُوا: أَنْتَ سَمِعْته؟ فَقَالَ نَعَمْ فَمَشَى حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النّفَرِ مِنْ يَهُودَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمّدُ أَلَمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنّك تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ إلَيْك: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ}؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلَى، قَالُوا: أَجَاءَك بِهَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالُوا: لَقَدْ بَثّ اللّهُ قَبْلَك أَنْبِيَاءَ مَا نَعْلَمُهُ بَيّنَ لِنَبِيّ مِنْهُمْ مَا مُدّةُ مُلْكِهِ وَمَا أَكْلُ أُمّتِهِ غَيْرَك، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ إنّمَا مُدّةُ مُلْكِهِ وَأَكْلُ أُمّتِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَاذَا؟ قَالَ: {المص} قَالَ هَذِهِ وَاَللّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالصّادُ تِسْعُونَ فَهَذِهِ إحْدَى وَسِتّونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ نَعَمْ {الر} قَالَ هَذِهِ وَاَللّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ وَاحِدَةً وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالرّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ نَعَمْ {المر} قَالَ هَذِهِ وَاَللّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالرّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ ثُمّ قَالَ لَقَدْ لُبّسَ عَلَيْنَا أَمْرُك يَا مُحَمّدُ حَتّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيت أَمْ كَثِيرًا؟ ثُمّ قَامُوا عَنْهُ فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيّيَ بْنِ أَخْطَبَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَحْبَارِ مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلّهُ لِمُحَمّدِ إحْدَى وَسَبْعُونَ وَإِحْدَى وَسِتّونَ وَمِائَةٌ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ. فَيَزْعُمُونَ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ سَمِعْت مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنّمَا أُنْزِلْنَ فِي أَهْلِ نَجْرَانَ، حِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنّهُ قَدْ سَمِعَ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنّمَا أُنْزِلْنَ فِي نَفَرٍ مِنْ يَهُودَ وَلَمْ يُفَسّرْ ذَلِكَ لِي. فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ.
حَدِيثُ أَبِي يَاسِرٍ بْنِ أَخْطَبَ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ أَبِي يَاسِرٍ بْنِ أَخْطَبَ وَأَخِيهِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ حِينَ سَمِعَا {المص} وَنَحْوَهَا مِنْ الْحُرُوفِ وَأَنّهُمْ أَخَذُوا تَأْوِيلَهَا مِنْ حُرُوفِ أَبِجَدّ إلَى قوله: لَعَلّهُ قَدْ جُمِعَ لِمُحَمّدِ وَأُمّتِهِ هَذَا كُلّهُ.
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ وَمَا تَأَوّلُوهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ مُحْتَمَلٌ حَتّى الْآنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ مَا دَلّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لَمْ يُكَذّبْهُمْ فِيمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ وَلَا صَدّقَهُمْ. وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لَا تُصَدّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذّبُوهُمْ وَقُولُوا: آمَنّا بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ. وَإِذَا كَانَ فِي حَدّ الِاحْتِمَالِ وَجَبَ أَنْ يُفْحَصَ عَنْهُ فِي الشّرِيعَةِ هَلْ يُشِيرُ إلَى صِحّتِهِ كِتَابٌ أَوْ سُنّةٌ فَوَجَدْنَا فِي التّنْزِيلِ وَإِنّ يَوْمًا عِنْدَ رَبّك كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ وَوَجَدْنَا فِي حَدِيثِ زَمْلٍ الْخُزَاعِيّ حِينَ قَصّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رُؤْيَا، وَقَالَ فِيهَا: رَأَيْتُك يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى مِنْبَرٍ لَهُ سَبْعُ دَرَجَاتٍ؟ وَإِلَى جَنْبِهِ نَاقَةٌ عَجْفَاءُ كَأَنّك تَبْعَثُهَا، فَفَسّرَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاقَةَ بِقِيَامِ السّاعَةِ الّتِي أُنْذِرَ بِهَا، وَقَالَ فِي الْمِنْبَرِ وَدَرَجَاتِهِ الدّنْيَا: سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ بُعِثْت فِي آخِرِهَا أَلْفًا وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ فَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبّاسٍ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ أَنّهُ قَالَ الدّنْيَا سَبْعَةُ أَيّامٍ كُلّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ وَبُعِثَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهَا. وَقَدْ مَضَتْ مِنْهُ سُنُونَ أَوْ قَالَ مِئُونَ وَصَحّحَ أَبُو جَعْفَرٍ الطّبَرِيّ هَذَا الْأَصْلَ وَعَضّدَهُ بِآثَارِ وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بُعِثْت أَنَا وَالسّاعَةَ كَهَاتَيْنِ، وَإِنّمَا سَبَقْتهَا بِمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ يَعْنِي: الْوُسْطَى وَالسّبّابَةَ وَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ صَحّحَهَا وَأَوْرَدَ مِنْهَا لَنْ يُعْجِزَ اللّهَ أَنْ يُؤَخّرَ هَذِهِ الْأُمّةَ نِصْفَ يَوْمٍ يَعْنِي: خَمْسَمِائَةِ عَامٍ وَقَدْ خَرّجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا. قَالَ الطّبَرِيّ: وَهَذَا فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهُ يَشْهَدُ لَهُ وَيُبَيّنُهُ فَإِنّ الْوُسْطَى تَزِيدُ عَلَى السّبّابَةِ بِنِصْفِ سُبْعِ أُصْبُعٍ كَمَا أَنّ نِصْفَ يَوْمٍ مِنْ سَبْعَةٍ نِصْفُ سُبْعٍ. قَالَ الْمُؤَلّفُ وَقَدْ مَضَتْ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ وَفَاتِهِ إلَى الْيَوْمِ بِنَيّفِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِي قوله: لَنْ يُعْجِزَ اللّهَ أَنْ يُؤَخّرَ هَذِهِ الْأُمّةَ نِصْفَ يَوْمٍ مَا يَنْفِي الزّيَادَةَ عَلَى النّصْفِ وَلَا فِي قوله: «بُعِثْت أَنَا وَالسّاعَةَ كَهَاتِينَ» مَا يَقْطَعُ بِهِ عَلَى صِحّةِ تَأْوِيلِهِ فَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ أَنْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّاعَةِ نَبِيّ غَيْرُهُ وَلَا شَرْعٌ غَيْرُ شَرْعِهِ مَعَ التّقْرِيبِ لِحِينِهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانْشَقّ الْقَمَرُ} و{أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا: إنّهُ عليه السلام بُعِثَ فِي الْأَلْفِ الْآخِرِ بَعْدَمَا مَضَتْ مِنْهُ سُنُونَ وَنَظَرْنَا بَعْدُ إلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطّعَةِ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ وَجَدْنَاهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا يَجْمَعُهَا: قَوْلُك: أَلَمْ يَسْطَعْ نَصّ حَقّ كُرِهَ ثُمّ نَأْخُذُ الْعَدَدَ عَلَى حِسَابِ أَبِي جَادٍ فَنَجِدُ ق مِائَةً و: ر مِائَتَيْنِ و: س ثَلَاثَمِائَةٍ فَهَذِهِ سِتّمِائَةٍ و: ع سَبْعِينَ و: ص سِتّينَ فَهَذِهِ سَبْعُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ و: ن خَمْسِينَ و: ك ثَمَانُمِائَةٍ و: م أَرْبَعِينَ و: لثَلَاثِينَ فَهَذِهِ ثَمَانُمِائَةٍ وَسَبْعُونَ و: ي عَشْرَةٌ. و: ط تِسْعَةٌ و: أ وَاحِدٌ فَهَذِهِ ثَمَانُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ و: ح ثَمَانِيَةٌ و: ه خَمْسَةٌ فَهَذِهِ تِسْعُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَلَمْ يُسَمّ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ إلّا هَذِهِ الْحُرُوفَ فَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَبَعْضِ فَوَائِدِهَا الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنْ السّنِينَ لِمَا قَدّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَلْفِ السّابِعِ الّذِي بُعِثَ فِيهِ عَلَيْهِ السّلَامُ غَيْرَ أَنّ الْحِسَابَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبْعَثِهِ أَوْ مِنْ وَفَاتِهِ أَوْ مِنْ هِجْرَتِهِ وَكُلّ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا، وَلَكِنْ الْعَبّاسِيّ سَأَلَ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْقَاضِي، وَهُوَ عَبّاسِيّ أَيْضًا: عَمّا بَقِيَ مِنْ الدّنْيَا، فَحَدّثَهُ بِحَدِيثِ يَرْفَعُهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ إنْ أَحْسَنَتْ أُمّتِي، فَبَقَاؤُهَا يَوْمٌ مِنْ أَيّامِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ وَإِنْ أَسَاءَتْ فَنِصْفُ يَوْمٍ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَتْمِيمٌ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدّمِ وَبَيَانٌ لَهُ إذْ قَدْ انْقَضَتْ الْخَمْسُمِائَةِ وَالْأُمّةُ بَاقِيَةٌ وَالْحَمْدُ لِلّهِ.
مَعَانِي الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ:
وَلِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ مَعَانٍ جَمّةٌ وَفَوَائِدُ لَطِيفَةٌ وَمَا كَانَ اللّهُ تَعَالَى لِيُنَزّلَ فِي الْكِتَابِ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا لِيُخَاطِبَ نَبِيّهُ وَذَوِي أَلْبَابٍ مِنْ صَحْبِهِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ وَقَدْ أَنْزَلَهُ بَيَانًا لِلنّاسِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصّدُورِ فَفِي تَخْصِيصِهِ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِالذّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا حِكْمَةٌ بَلْ حِكَمٌ وَفِي إنْزَالِهَا مُقَطّعَةً عَلَى هَيْئَةِ التّهَجّي فَوَائِدُ عِلْمِيّةٌ وَفِقْهِيّةٌ وَفِي تَخْصِيصِهِ إيّاهَا بِأَوَائِلِ السّوَرِ وَفِي أَنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ السّوَرِ دُونَ بَعْضٍ فَوَائِدُ أَيْضًا، وَفِي اقْتِرَانِ الْأَلِفِ بِاللّامِ وَتَقَدّمِهَا عَلَيْهَا مَعَانٍ وَفَوَائِدُ وَفِي إرْدَافِ الْأَلِفِ وَاللّامِ بِالْمِيمِ تَارَةً وَبِالرّاءِ أُخْرَى، وَلَا تُوجَدُ الْأَلِفُ وَاللّامُ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ إلّا هَكَذَا مَعَ تَكَرّرِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرّةً فَوَائِدُ أَيْضًا، وَفِي إنْزَالِ الْكَافِ قَبْلَ الْهَاءِ وَالْهَاءِ قَبْلَ الْيَاءِ ثُمّ الْعَيْنُ ثُمّ الصّادُ مِنْ {كهيعص} مَعَانٍ أَكْثَرُهَا تُنَبّهُ عَلَيْهَا آيَاتٌ مِنْ الْكِتَابِ وَتُبَيّنُ الْمُرَادَ بِهَا لِمَنْ تَدَبّرَهَا. وَأَثَر وَعَرَبِيّةٍ وَنَظَرٍ يُخْرِجُنَا عَنْ مَقْصُودِ الْكِتَابِ وَيَنْأَى بِنَا عَنْ مَوْضُوعِهِ وَالْمُرَادِ بِهِ وَيَقْتَضِي إفْرَادَ جُزْءٍ أَشْرَحُ مَا أَمْكَنَ مِنْ ذَلِكَ وَلَعَلّهُ أَنْ يَكُونَ إنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ وَلِيّ التّوْفِيقِ لَا شَرِيكَ لَهُ. اهـ.